منتدى كمال للعلوم العربية والإسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

حسن الظن بالله

اذهب الى الأسفل

حسن الظن بالله  Empty حسن الظن بالله

مُساهمة من طرف كمال أحمد زكي الجمعة أبريل 19, 2024 9:54 am

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضل بحكمته وهدى، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى؛ أما بعد:

فمن أفضل خصال الخير الرجاء في الله وحسن الظن به.
وحسن الظن بالله تعالى؛ هو قوة اليقين بما وعد الله تعالى عباده من سعة كرمه ورحمته، والتوكل عليه ، والرضا بأقداره ؛ ولخَّصه بعضهم فقال: "توقُّع الجميل من الله تعالى"؛ وذلك بأن يظن المؤمن المغفرة له إذا استغفر، والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفاية.

قال يحيى بن معاذ: "أوثق الرجاء رجاء العبد ربه، وأصدق الظنون حسن الظن بالله".
وقال ابن مسعود: "والله الذي لا إله إلا هو.. لا يحسن أحد الظن بالله إلا أعطاه ظنه".
وتصديق هذا في الحديث القدسي: ((أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم، وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً)).

والرجاء في الله وحسن الظن به من مقتضيات التوحيد والإيمان، وهو من أعمال القلوب، وهو قرة عين لأصحابه، فمن أحسن بالله ظنه قرت بالله عينه؛ ومن لم يحسن بالله ظنه، لم تقر بالله عينه".

وكيف لا يحسن ظننا بالله وما رأينا منه إلا الخير والجميل، وما بنا من نعمة فمنه.. خلقنا وهدانا، وكفانا وآوانا، وأطعمنا وسقانا، ومن كل ما سألناه أعطانا {الذي خلقني فهو يهدين  والذي هو يطعمني ويسقين  وإذا مرضت فهو يشفين  والذي يميتني ثم يحيين  والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين}.

ومن جميل حسن الظن ما قاله بعض العباد: "لما علمت أن ربي يلي محاسبتي زال عني حزني. قيل له ولم؟ قال: إن الكريم إذا قدر عفا.
ومرض أعرابي، فقيل له: إنك تموت. قال ثم ماذا؟ قالوا: يذهب بك إلى الله. قال: فما كراهتي أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه؟

أيها المسلمون، وحُسْن الظَّنِّ بالله ينبغي أن يُصاحِبَ العبدَ كلَّ حياته وفي كافة شؤونه، لا يفارقه لحظةً واحدةً، غير أن هناك أوقاتًا وأحوالًا يحسُن بالعبد أن يحُسِنَ الظَّنَّ فيها بربه جل جلاله؛ ومنها:

1- عند دعاء الله تعالى، وسؤاله إياه:

• عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة))، فإذا دعاه وسأله، فَلْيُحْسِنْ ظنَّه بأنه قادر على تحقيق ما سأل.

• واحذر كل الحذر مِنْ تَرْكِ الدعاء واستعجال الإجابة، فإنها قد تتأخر لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَلْ؛ يقول: قد دعوت ربي، فلم يستجِبْ لي)).
فإذا تأخر جواب دعوته بأمر من أمور الدنيا؛ فإحسان الظن بالله تعالى، هو أن يرجو أن الله تعالى قد قدّر له ما هو خير.
قال صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " قالوا : إذا نكثر ، قال : " الله أكثر ".

2- عند التوبة:
• فيُحسن العبد ظنه بربِّه متى تاب وصدق في توبته، أنه سيتوب عليه، وإذا استغفره فسيغفر له على ما كان منه، ولو كانت ذنوبه مثل زَبَدِ البحر، أو بلغت عَنان السماء، أو عدد رمال الصحراء؛ فعن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: يا بنَ آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء، ثم استغفرتني، غفرتُ لك، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لَقِيتَني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقرابها مغفرةً)).

أما القنوط فهو أكبر من كل خطيئة، وأعظم من كل ذنب، وهو أن نعتقد أن هناك من الذنوب ما هو أعظم من رحمة الله ، وقد قال تعالى: {فلا تكن من القانطين} وقال: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}. وقال: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.

سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئا، فهل لذلك من توبة؟ قال: هل أسلمت؟ قال: أما أنا فاشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأنك رسوله. قال: نعم. تفعل الخيرات، وتترك السيئات، يجعلهن الله لك كلهن خيرات. قال: وغدراتي وفجراتي. قال: نعم. قال: الله أكبر... فما زال يكبر حتى توارى.
وهذا في كتاب الله في سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}.

والرجاء المحمود المطلوب هو الذي لا يتجاوز به صاحبه إلى الاغترار، فبينهما فارق: فالرجاء يكون لمن مهد أسباب المرجو، والاغترار لمن أخل بها".
ولا يحسن الظن بالرب من يقيم على المعاصي.
ولهذا قد قال ابن القيم في المدارج: "أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل".

ولما قيل للحسن: إن قوما أساءوا العمل وقالوا نحسن الظن بالله. قال: كذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

والناس في حياتهم يعلمون هذا ويقبلونه ويعدون مخالفه مطعونا في عقله وفهمه، فمن رجا ولدا بغير زواج اتهم في عقله، ومن رجا ثمرا بغير زرع وبذر قالوا مجنون، حتى من جاع أو عطش فرجا الشبع بغير طعام، أو الري بغير شرب اتهموه على عقله.
ولو أنك استأجرت أجيرا ليؤدي لك عملا، فأخذ يومه في اللهو واللعب أو النوم والخمول والكسل، وما أدى عمله ثم جاءك آخر النهار يطلب أجره فماذا ستصنع فيه؟!

وكذلك هنا، من رجا منازل الأبرار بأفعال الفجار، أو رجا الفوز بالجنة وهو يعمل بعمل أهل النار،  كان رجاؤه من قبيل الأماني والغرور لا من قبيل الرجاء الممدوح المرغوب.

يقول يحيى بن معاذ: عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب؟! هيهات هيهات، أنت سكران بغير شراب.
يا ناظـــرا يرنــو بعيــني راقــد .. ... ومشــاهدا للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان ونيل فوز العابد
ونســيت أن الله أخـــــرج آدمـــا .. ...  منــها إلى الدنيا بذنب واحد

3- عند نزع الموت وسكراته؛ وهو أشدها وجوبًا وأعظمها أهميةً:

• ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يَمُوتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحسِن الظَّنَّ بالله عز وجل))؛ أي: يحسن ظنه بمن هو وافد عليه، وقادم إليه، يثق أنه سيقدم على من سبقت رحمته غضبه، سَيَفِدُ على البَرِّ الرحيم، والعفوِّ الكريم.

• ‏وبعض العلماء قالوا: يغلب جانب الخوف في حال الصحة، ويغلب جانب الرجاء عند الموت؛ لأنه في حال الصحة يحتاج إلى ردع وزجر، ويغلب جانب الخوف حتى يصل إلى مأمن.

• ‏وعن أنس رضي الله عنه، قال: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب، وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله، إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمَنَهُ مما يخاف)).

ومصداق هذا ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، منها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها... وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة].
4- عند فعل القربات والطاعات، وأداء القربات:

• فيُحسن العبد الظن بربه؛ بأنه سيقبلها منه مع صغرها ولن يضيعها، وسيُثيبه عليها من فضله الواسع؛ كما قال تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾.

5- عند الصدقات والإنفاق في سبيل الله تعالى:

• فمن حُسْنِ ظنِّك بالله أن تبذُل وتقدِّم في وجوه الخير؛ ثقةً بما عند الله، وأنه سيخلُف لك النفقة، وأنه سيبارك لك فيما أبقى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾.

• ‏وأما سوء الظن بالله، فإنه يدعو إلى الشح والبخل؛ كما قال تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.

6- عند التوكل عليه في طلب الرزق:

• وذلك بأن تُحسِنَ الظَّنَّ بالله في رزقك، وأنت تطلب الرزق تُحسِنَ الظَّنَّ بالله أن الله سيرزقك، ويسوق رزقك إليك، وأنه سبحانه لن يُضيِّعك، فإن الله لا يضيع من يتوكل عليه: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾.

• ‏فعند ضيق الأرزاق، وكَدَرِ العيش، يحسن العبد ظنه بالله رازقه ومولاه؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تُسَدَّ فاقتُه، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل، أو آجل))؛ [رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد، وصححه الألباني].

• ‏ لكن لا بد من بذل الأسباب؛ فعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله، لَرَزَقَكُم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا)).

7 عند رؤية ما يصيب المسلمين من الذل والهوان والاستضعاف، ومن تسلط الأعداء عليهم:

• قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾.

أيها المسلمون عباد الله، القليل من الناس هم الذين يحسنون الظن بالله وهم الذين اصطفاهم الله وهداهم ومنهم :
• إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، قال كلمةً تجسَّد من خلالها حُسْنُ الظَّنِّ بربه، وقوة توكله عليه، وأنه قطع الأسباب كلها إلا حبل الله، وأغلق الأبواب جميعها إلا باب الله؛ إنها كلمة: ((حسبي الله ونعم الوكيل))، فماذا كان نتيجة حسن ظنه بربه تعالى؟ يأتي الأمر السريع، من رب سميع: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾.

• ‏وتتربى في هذا البيت الإيماني زوجته هاجر عليها السلام لتضرب المثل في الثقة، وحُسْن الظَّنِّ بالله تعالى؛ وذلك لما أوحى الله تعالى لإبراهيم أن يهاجر بها ورضعيهما إسماعيل ليُسكنهما مكةَ، فنفذ الأمر ووضعهما هناك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم منطلقًا، فتبِعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، ((قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا))، فماذا كان نتيجة حسن ظنها بربها تعالى؟ نبعت من تحت قدمي رضيعها ماء زمزم، وبُنِيَ عندهم البيت الحرام، وجعله الله تعالى محلًّا تشتاق إليه القلوب؛ كما قال تعالى: ﴿ فاجعل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾.

• ‏وهذا يعقوب عليه السلام عندما فَقَدَ أحبَّ أولاده إليه - يوسف وأخاه - فلم ييأس، ولم يقنط من رحمة الله تعالى: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ ، فماذا كان نتيجة حسن ظنه بربه تعالى؟ رجع إليه يوسف عليه السلام وهو عزيز مصر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.

• ‏وهذا موسى عليه السلام يخرج بقومه ليلًا فيلحقه فرعون ويدركه عند البحر، وفي الساعة الحرجة والموقف الصعيب يسأله قومه عن المخرج من هذه المحنة، فيجيبهم وهو ساكن القلب رابطَ الجَأْشِ، ويصوِّر الله المشهد؛ بقوله: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ ، فماذا كان نتيجة حسن ظنه بربه تعالى؟ قال الله تعالى: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾.

• ‏وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يأتيه أمْرُ الله تعالى بالهجرة إلى المدينة، فيصطحب معه أبا بكر رضي الله عنه، فتوجَّها نحو غار ثور ليُقيما فيه أيامًا، فتخرج قريش بغيظها وحَنَقِها باحثةً عنه في كل مكان، وتوقَّعت أن يتخذ من الغار ملجأً، فتوجهت صوبه ووقفوا على باب هذا الغار في لحظة تتقطع لها الأنفاس، وتنفرط لها العقول، وتتجمد منها الدماء؛ ويصور الله ذلك بقوله: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.

• ‏وعلى هذه الثقة سار أصحابه وتربَّوا وتخلَّقوا بها؛ فكانوا يقينًا يفيض، وثقةً تنبع؛ ففي معركة الأحزاب لما سمعوا بتحزُّب القوم عليهم، وتكالبهم وما قاموا به من حصار على المدينة صوَّر الله حالهم قائلًا: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ، وقولهم: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾.

• ‏وكان من دعاء بعضهم كما قال سعيد بن جبير رحمه الله: "اللهم إني أسألك صِدْقَ التوكل عليك، وحُسْن الظَّنِّ بك".

عباد الله: إنّ الشيطانَ حريصٌ على أن يُسِيءَ العبدُ ظنَّه بالله، ويمتلئ قلبُه بالشكِّ في قدرةِ اللهِ أو في رحمتِه أو في حكمتِه، فهُو جاهدٌ في إيقاعِه في ذلك على صُوَرٍ شَتّى.

فمِن سوءِ الظنّ باللهِ أن يعتقدَ العبدُ أنّه لا يَصِلُ إلى اللهِ إلا عن طريقِ مَلَكٍ أو نبيٍّ أو وليٍّ صالحٍ يَشفَعُ له عندَ الله، فيجعلَ اللهَ كحالِ بعضِ الزعماءِ الذين يُضطَرُّ مَن يَحتاجُ الوصولَ إليهم إلى وسائطَ وشُفَعَاءَ يؤثّرون عليهم، ويُوصِلُون حاجاتِ الناسِ إليهم، فأينَ سَعَةُ علمِ الله؟ وأين كمالُ مِلكِه وسلطانِه؟ وأين كمالُ رحمتِه وإحسانِه؟ وأين قُربُه سبحانهُ وإجابتُه لدُعاءِ عِبادِه؟

ومِن سُوءِ الظنِّ باللهِ نِسبةُ الولدِ إليه، وهُو خالقُ كلِّ شيءٍ، ولم يتّخِذْ صَاحِبةً ولا ولدًا.

ومِن سوءِ الظنِّ باللهِ، القَدحُ في شَرعِه وحًكمِه، والظنُّ بأنّ شريعتَه تَصلُحُ لزمانٍ دونَ زمان، وأنّ مصلحةَ النّاسِ في تعطيلِها والعملِ بغيرِها.

ومِن سوءِ الظنِّ باللهِ، الشكُّ في حِكمتِه وإنفاذِ وعدِه، والظنُّ بأنّه لا يَنصُرُ عبادَه المؤمنين، وأنّ الكافرينَ يُعجِزُونَه بِدُوَلِـهم ومُقَدّراتِـهم وطاقاتِـهم، فهذا ظنٌّ باطل، وحُسبانٌ فاسد: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ،   فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ،       لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

ومِن سوءِ الظنِّ باللهِ تعالى الظنُّ بأنّه سبحانه يومَ القيامةِ قد يُسَوِّي الكافرَ بالمؤمن، فيجعلُ المسلمَ مع غير المسلم في مَصِيرٍ واحدٍ، وهو القائل:وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. فأحسنُوا الظنَّ باللهِ ربِّكم مع إحسانِ العمل، واحذروا سُوءَ الظنِّ باللهِ العزيزِ الرّحيم.

وقال ابن الجوزي: دخلت على إنسان كثير الاعتراض على الله، وكان عليه جَرَب -مصاب بمرض الجرب-، فقال: على ما يبتليني؟!

ولما جاء لبعض الناس طعام، وهو في مرحلة متقدمة من العمر قد سقطت أسنانه، قال: بعث لي هذا في وقت لا أقدر على أكله! اعتراض على الله وإساءة ظن بالله!.

قال: كان رجل قد قارب الثمانين سنة كثير الصلاة والصوم، فمرض، واشتد به المرض، -العبادة لوحدها دون عمل القلب لا تكفي، العبادة بدون عقيدة صحيحة لا تكفي-، اشتد به المرض، فتلفظ هذا المسكين على فراش المرض قال: إن كان يريد أن يميتني فليمتني، أما هذا التعذيب فليس له معنى! لا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان!.

ورأيت من ضاق عليه رزقه يقول: أيش هذا التدبير؟ يتهم تدبير الله ، قال: وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا، وربما يقولون: ما عدنا نريد الصلاة، ما عدنا نريد التدين، إذا كان هذا آخرة التدين.

وما فهم ذلك الأحمق أن الله يفعل ما يشاء، وأنه يبتلي عباده ليخرجوا ما في صدورهم، إن الله سبحانه يعذب على الأعمال عندما تقع، فالله يعلم ماذا يفعل العباد ، يعلم ماذا سيفعلون، لكن يريد أن يظهر علمه في الواقع لكي يكون العذاب والنعيم على هذه الأعمال الظاهرة التي تظهر في الواقع، حتى لا يأتي إنسان يوم القيامة، فيقول: رب عذبتني على شيء في صدري ما أخرجته، عذبتني على شيء أكننته وما أظهرته، فيقول الله له: هذه أعمالكم مسطرة، مجموعة كلها.


ثم صلُّوا وسلِّموا على السراج المنير، اللهم صلّ وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كمال أحمد زكي

المساهمات : 131
نقاط : 355
تاريخ التسجيل : 04/07/2017

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى